‏إظهار الرسائل ذات التسميات في القصة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات في القصة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 29 أغسطس 2015

حوار ساخن.. قصة ونقد

نشرت هذه  القصة في جريدة الزمان العراقية ونشرت دراستي لها في الجريدة نفسها بعد خمسة أيام


حوار ساخن
خسين عبد الخضر

ثم . . أنت قد لا تدركين ما اقوله لك . لا شك أنك عشت حياة مثالية ، ربما تعتبرينها أنت عادية ، فقد عشت في كنف أبوين حانيين يخافان عليك ، يتعهدانك إذا مرضت ، وربما يقصان عليك قصص قبل النوم ، لا شك أنك كنت تمتلكين سريرك الخاص ، وربما غرفتك الخاصة ، وترتدين ملابسك الخاصة ، لذلك أنا اشك في أنك تستطيعين مجرد تصور ما سوف احكيه لك . اقول لك أن الحياة ، للأسف ، لم تكن دوما كما تتصورين ، علي الأقل نمط حياتي ومن يشاكلني يعتبر غريبا عنك . لكن ، بما أنك تصرين علي معرفة سبب انكسار الحزن في عينيّ ،ّ فأنا مضطر إلي الاستجابة لك .

كانت المشكلة في أن أبي مازال حيا ، فلو أنه كان ميتا ، لم تكن الأمور لتأخذ هذا النحو من السوء ، لكنه كان حيا ، وقد عني ذلك أنني قد حرمت سلفا من حق التمتع برعاية أب حي واهتمامه . لم نكن فقراء ، ولكننا بحاجة ماسة للمال ، وعلي الدوام . ولأنني الطفل المرهف ، وربما كنت اتمتع بنوع من الحصانة يجعل أمي مطمئنة وهي تبعث بي إلي السوق ، فقد تركت حق الاستمتاع بلعب الطفولة لبقية أخوتي ، لم اكن اكبرهم سنا ، إذا كان هذا ما يرد في ذهنك ، إلا أنني كنت الاكثر نشاطا ، واستعدادا للتضحية بمشاهدة افلام كارتون .

كنت افتح عينيّ كل صباح لأري صينية ( الطاطلي ) في زاوية الغرفة ترمقني بخبث . تخلصني أمي من حالة الكسل بغسل وجهي ، وترديد بعض كلمات التشجيع عليّ ، كما لو أنها تهمس بتعويذة سحرية ، فتجبرني علي النهوض ، وتناول الإفطار . هل سبق لك أن غسلت وجهك وأنت علي فراشك ؟ بعد لحظات قصيرة ، اشرب فيها استكان الشاي ، واقرض نصف ( صمونة ) تكون والدتي قد وضعت الصينية علي رأسي ، وتطلقني إلي الشارع ، فيما لا يزال أبي وأخوتي يغطون في نومهم . يداعب اجفاني الصحو ما أن تلمس قدماي اسفلت الشارع . اسير حتي السوق ، وأنا اهتف بلا هدف محدد : " طاطلي ، طاطلي " . وفي مكان محدد ، اخترته بعفوية مطلقة ، انزل الصينية من علي رأسي ، وأقف . استمر في النداء علي بضاعتي . يشتري مني بعض الناس . يكتفي بعضهم بقطعة واحدة ، وقد لا يكتفي آخرون بأكثر من قطعة . كنت اشعر بالفرح وأنا اسمع صليل قطع النقود المعدنية في جيبي ، لكن ذلك لا يستمر لفترة طويلة . بعد ساعة أو اكثر بقليل ، يتجاهلني السوق ، ولا يعود أحد يشعر بوجودي ، اشعر أنني اقذف صوتي في الفراغ . انظر إلي صينيتي ، فأري أنها مازالت مليئة بكرات الطاطلي الملتمعة تحت وهج الشمس ، وهي ترشح الشيرة بكسل إلي قاعدة الصينية . هل تعتقدين أني كنت استطيع مد يدي إلي واحدة ؟ أبدا . كانت أمي تعدها جيدا ، ولن يفلح أي عذر في حال اكتشاف فقدان واحدة .

استمرت في نبش الأرض برجلها ، ومتابعتي باهتمام ، وكأنها تتسلي بسماع حكاية من حكايات جدتها . كان بريق الذهول لا ينفك يتراقص في عينيها ، ويغازل اجفانها فرح بريء . إنها لا تريد أن تقاطعني حتي بسؤال ، فتضطرني إلي توهم اسئلة والاجابة عليها . سحبت سيجارة أخري من العلبة ، اشعلتها من طرف السيجارة السابقة ، وأكملت :

ومع ذلك ، فقد كنت اخترع تسليتي الخاصة في كل يوم ، أمارس بعض الالعاب وأنا اقبع في مكاني ، أطارد الوجوه المتشابهة مثلا ، أو احاول تقدير اعمار بعض الناس الذين يلفتون انتباهي ، وربما أحاول في بعض الأحيان تخمين المهن ، فوجوه الناس ، كما كنت اعتقد ، تكشف عن مهنهم ، وإذا ما كانوا قساة أم طيبون . عندما يقترب وقت الضحي ، يكون الوقوف في مكاني غير مجد . احمل صينيتي وأدور بها في السوق رافعا ندائي ، وربما اتجاوز السوق إلي شوارع أخري مكتضة بالناس ، فأبيع بعضا من بضاعتي . ما لا أدركه هو سر فرحي عندما يشتري مني الآخرون مع أن فلسا واحدا لن ينزل في جيبي ، فأمي دائما ما تبدأ بأخذ المال ، ثم تحسب القطع المتبقية ، لمعرفة ما إذا كنت قد اكلت منها واحدة أو أنني صرفت بعض المال علي ملذاتي الخاصة . قد يكون من الطبيعي أن يحدث ذلك لو أن الآخرين احتفظوا بألسنتهم في أفواههم ، لكن هناك بعض الناس يجعلون الأمر يبدو قاسيا جدا ، فربما كنت استطيع تجاوزالأمر بسبب طفولتي ، أو لأنني احظي ببعض الرفاق في السوق ، لكن تلك الكلمات التي اسمعها ، وتكون موجهة لي شخصيا ، تفاقم من شعوري بأنني اعيش في المكان الخطأ . اعرف أنك لم تختبري هذا الشعور ولو لمرة واحدة ، بل ربما كنت تظنين الآن بأن الطاطلي هو غير الداطلي مع أنهما شيء واحد ، لكن اهلك كانوا يمنعونك من تناوله خوفا عليك ، ويجلبون لك حلوي معلبة ، وهذا كما ترين ، لا يشعرني نحوك بأية ضغينة . قلت أن بعض الناس كانوا يجعلون الأمر أسوأ عندما يقولون : " يالجمال هذا الطفل ، وقسوة قلب أمه ، ألا تخاف علي طفل جميل كهذا من العمل في السوق . " وقد تقول لي أخري : " لو كنت ولدي لما تركتك تغادر البيت . " عبارات من هذا القبيل كنت اسمعها دائما ، فقد كنت جميلا بشكل يلفت النظر .

بشكل لا اتمكن من ادراكه حضرت العبارة في رأسي ، وأرادت أن تفلت بنفسها إلي سمعها ، فتوقفت . دفعة واحدة تدفقت الذكري من جديد ، وأخذ الجرح في اعماق روحي ينز بدم طازج . تطوحت روحي في داخلي مثل جريح ينزف كل دمائه علي الأرض ، وتصاعد في رأسي لحن لكمان حزين . مددت يدا مرتجفة ، تناولت كأسا ، ورشفت علي مهل ، رشفات قصيرة متتابعة ، احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي . لكنها بقيت مخلصة لصمتها ، الذهول يشد ملامحها إلي بعضها ، بدت مهتمة تماما ، إلا أنني اشك في أنها كانت متعاطفة معي اكثر من تعاطفها مع شخص في قصة ، ولست اعرف إذا ما كانت تدرك علي نحو واضح حرارة الألم الذي يشعر به طفل مهمل ، أو رجل يتذكر طفولته المهملة ، لكن ذلك بدي لي في هذه اللحظة غير مهم ، لابد أن يموت ذلك الجريح النازف ويستريح ، سأطرد صوت الكمان من رأسي ، واتركه يموت بهدوء ، قبل أن تنزل دموعي المتأرجحة .

ربما كنت تظنين أنك استمعت إلي أسوأ ما يمكن أن يحدث في حياة طفل حتي الآن . يكفي أن تتصوري حرمانه من اللعب كي تتفجر اقصي طاقتك علي الغضب . أليس جريمة سيدتي أن يحرم طفل من اللعب ؟ حسنا ، إلا أنه في هذه الحياة يمكنك توقع حدوث الأسوأ دائما ، كما يمكنك توقع الأفضل ، لكن ما حصل معي هو الأسوأ . لقد اصطدمت ذات يوم ، وفي طريق عودتي إلي البيت ، بشخص ساه ، فوقع ما تبقي من الطاطلي علي الأرض . مضي الرجل في سبيله ، وتركني أواجه المصيبة وحدي . غزت صور العقوبات المختلفة رأسي ، فسري الذعر في نفسي ، ومن اجل هذا الخطأ تخيلت أمي وهي تمارس جميع عقوباتها عليّ بالتسلسل . جلست حائرا ، وضعت يدي علي رأسي ، يمكنك أن تلاحظي أنني افعل ذلك حتي الآن عندما تصادفني مشكلة . قطع الطاطلي تلوثت ، لا يمكنني بيعها الآن ، أو العودة بها إلي البيت ، العقوبة تنتظرني ، سوف أضرب وأهان ، سوف تنقض أمي بعضة قوية علي ذراعي ، سوف تصفعني ، وتشتمني ، ولن تتوقف حتي تتعب . هل سبق لك أن عضتك أمك ؟ لا ، أنا امزح ، أمك امرأة عاقلة ، ثم لماذا تعضك ، وأنت لم تسقطي الطاطلي علي الأرض ؟ .

تمنيت لو أنها ابتسمت للنكتة ، لو أنها قامت بأي ردة فعل ، لكنت وجدت فرصة لتغيير الموضوع ، ولم اضطر لسماع انين الرجل الجريح ، غير أنها لم تمنحني أية فرصة للتراجع .

ورغم أن ذلك قد وقع فعلا ، وبشكل اقسي مما تخيلته ، إذ يمكنني أن أريك أثر العضة علي ذراعي الآن ، لكن شرودي منعني من الالتفات إلي الحدث الأسواء . لقد كان هناك مصور صادف مروره لحظة جلوسي علي الرصيف أضع يدا علي رأسي ، فيما قطع الطاطلي علي الأرض ، والصينية في اليد الأخري فارغة ، اعجبه المشهد فالتقط صورة لي دون أن أدري ، ولم اكن لأدري لولا أنني زرت معرضا قبل أيام ، فوجدتها هناك . توقفت طويلا أمام الصورة . نظرت إلي الطفل الحائر ، وتسللت إلي ذاكرتي كل أحداث ذلك اليوم . وددت أن اصرخ ، لكنني بكيت فقط . نسيت أنني اقف في معرض مكتظ بالزائرين ، فقدت كل احساس بالآخرين ، فارتفع صوت نشيجي ، ورحت العن أيام طفولتي . إنني طفل جميل جدا ، ولو كنت ابن غير هؤلاء الناس لعشت حياة أخري ، ونعمت بالرفاهية مثلك ، ربما حظيت ، علي الأقل بأب يتعب من اجلي وأم تخاف عليّ من نظرات الناس ، فلا تسمح لي بالخروج إلي الشارع . هل تعرفين انك محظوظة جدا بأبويك ؟ بعد تمخض دموعي عن ولادة حزن قديم ، تغلغل عميقا في نفسي ، انتابني شعور بالغضب . كيف سمح هذا المصور اللعين لنفسه بالتلاعب بصورتي ، ووضع طفلا آخر في محلي ، ربما كان ابنه هو الذي لم يعرف مرارة حمل صينية الطاطلي والدوران بها في الصباح ؟ قصدته وصرخت بوجهه : " أنت مصور مزيف . كيف سمحت لنفسك بتشويه صورتي ؟ " وقبل أن تتحرر الكذبة من فمه ، وجهت ضربتي إلي عينه مباشرة ، وفجرت دمه . هل تظنين أن القاضي سيبرؤني ويحاكمه هو لتزييفه صورتي ؟ هل تعتقدين أن الناس يمكن أن يكونوا عادلين ولو لمرة واحدة ؟ مالك لا تتفوهين ولو بكلمة ؟ لم أنت صامتة ؟ أنا لا اقص عليك حكاية قبل النوم ، قولي شيئا . استمرت معتصمة بصمتها ، ربما كانت متعاطفة معي في داخلها ، ربما كانت ستقول اشياء كثيرة لو أنها تمكنت من الكلام ، لكنها اكتفت بالنظر إليّ فقط . لم تقل ولو كلمة واحدة لتطفئ القليل من الغضب المتوقد في صدري . وفي لحظة جنون حملتها في كفي ، وصرخت فيها أن تتكلم ، لكنها راحت تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها الخشنة . اطبقت قبضتي عليها اكثر ، فشعرت باحشائها تفيض في كفي .
 
 
 

سحر النهاية في القصة القصيرة

د.ثائر العذاري

في عددها الصادر في 25/8/2009 نشرت جريدة الزمان العراقية في طبعتها الدولية قصة قصيرة للقاص  حسين عبد الخضر بعنوان (حوار ساخن)، التي تمثل نموذجا واضحا لمقولة أن القصة القصيرة نص مبني من أجل نهايته، فهو، بكل تفاصيله يتسارع نحوها ويشير اليها، ومع ذلك يجب أن تكون النهاية مدهشة وغير متوقعة، تبدأ القصة بهذه العبارة:
((ثم . . أنت قد لا تدركين ما اقوله لك . لا شك أنك عشت حياة مثالية ، ربما تعتبرينها أنت عادية ، فقد عشت في كنف أبوين حانيين يخافان عليك ، يتعهدانك إذا مرضت ، وربما يقصان عليك قصص قبل النوم ، لا شك أنك كنت تمتلكين سريرك الخاص ، وربما غرفتك الخاصة ، وترتدين ملابسك الخاصة ، لذلك أنا اشك في أنك تستطيعين مجرد تصور ما سوف احكيه لك .))
يبدو من هذه البداية أن الخطاب السردي هنا مبني بصيغة المخاطب، وأن المتكلم سيعرض حكاية فقره وحرمانه في مقابل حياة هذه الفتاة المخاطبة التي يبدو أنها من عائلة موسرة. فيبدأ فعلا بإخبارها عن طفولته المتعبة واضطراره أن يعيل عائلته وهو لما يزل طفلا، حين يحمل (صينية الطاطلي) باكرا متوجها إلى السوق. غير أننا نصطدم بعد حين بعبارة:
((استمرت في نبش الأرض برجلها ، ومتابعتي باهتمام ، وكأنها تتسلي بسماع حكاية من حكايات جدتها .))
هنا تغيرت صيغة الخطاب وانتقلت من كونها خطابا مباشرا مع شخصية أخرى في مجرى السرد إلى إخبار عن حدث في الماضي، فالقاص هنا يتصرف ككاتب السيناريو، ويضع تعليقات معترضة تؤدي وظيفة توصيف الحركة، إذ يعود بعد هذه العبارة إلى حواره الساخن، ليكمل حكاية طفولته البائسة:
((.......عندما يقترب وقت الضحي ، يكون الوقوف في مكاني غير مجد . احمل صينيتي وأدور بها في السوق رافعا ندائي ، وربما اتجاوز السوق إلي شوارع أخري مكتضة بالناس ، فأبيع بعضا من بضاعتي .))

 
مثل تلك الشروح السيناريوية ترد مرات أخرى في النص مثل:
((لكنها بقيت مخلصة لصمتها ، الذهول يشد ملامحها إلي بعضها ، بدت مهتمة تماما)).
وهو من خلالها يحدد انطباعات القارئ عن شخصية الفتاة التي يخاطبها، فهي صامتة صمتا يوحي باهتمامها من غير أن تقوم بأي رد فعل ملموس.
((تمنيت لو أنها ابتسمت للنكتة ، لو أنها قامت بأي ردة فعل ، لكنت وجدت فرصة لتغيير الموضوع ، ولم اضطر لسماع انين الرجل الجريح ، غير أنها لم تمنحني أية فرصة للتراجع.))
ثمة إصرار في هذه التعليقات على التركيز على فكرة الصمت وانعدام ظهور أية ردة فعل حركية. ويستمر الراوي في بوحه هذا حتى يصل به الضيق بصمتها حدا لا يطاق لتأتي عيارة النهاية الصادمة التي ستجعلنا نعيد قراءة القصة لفهمها بما يتوافق مع هذه العبارة:
((استمرت معتصمة بصمتها ، ربما كانت متعاطفة معي في داخلها ، ربما كانت ستقول اشياء كثيرة لو أنها تمكنت من الكلام ، لكنها اكتفت بالنظر إليّ فقط . لم تقل ولو كلمة واحدة لتطفئ القليل من الغضب المتوقد في صدري . وفي لحظة جنون حملتها في كفي ، وصرخت فيها أن تتكلم ، لكنها راحت تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها الخشنة . اطبقت قبضتي عليها اكثر ، فشعرت باحشائها تفيض في كفي.))
إن عبارات (حملتها في كفي) و(تقاوم قبضتي بدفعات ضعيفة من أرجلها) و(شعرت بأحشائها تفيض في كفي) ستجبرنا على إعادة القراءة لتفسير القصة بما يعطي معنى معقولا لهذه العبارات, فكيف حملها في كفه؟ وكيف احتواها كفه بحيث كان يشعر بدفعات أرجلها الضعيفة؟ ولماذا أرجلها خشنة وهي تلك الرقيقة التي أسبغ عليها صفات الرفاهية؟ ولماذا (تفيض) أحشاؤها وليس أية كلمة معتادة أخرى؟
بكلمات قليلة في عبارة النهاية, يضعنا القاص في موقف نشعر فيه أننا خُدِعنا، فهذه التساؤلات التي ستقفز إلى أذهاننا تدل على أن الراوي أوهمنا بوجود فتاة مخاطبة، وهي لاشك فتاة بشرية ولا شيء آخر بما قدم من صفاتها في الفقرات الأولى للقصة.
ثمة جملة قصيرة مفتاحية ترد في وسط القصة:
((وتصاعد في رأسي لحن لكمان حزين . مددت يدا مرتجفة ، تناولت كأسا ، ورشفت علي مهل ، رشفات قصيرة متتابعة ، احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي . لكنها بقيت مخلصة لصمتها)).
غير أن القارئ لن يتنبه إلى أهميتها إلا بعد أن تصدمه النهاية، فما هي هذه التي (احسست بها ، وهي تنزل إلي أحشائي)؟
ثمة اختلاط كبير هنا بين ما شربه من الكأس وبين فتاته التي يخاطبها، فعندما تناول كأسا أحس بها تنزل إلى أحشائه. وطبعا لا يمكننا أن نقول أن الفتاة هي محتويات الكأس بسبب الأوصاف التي وصفها بها والأفعال التي أسندها اليها.
هذا الخلط بين الشراب والفتاة هو مفتاح فهم قصة (حوار ساخن)، فالقصة محض حوار داخلي في وعي الراوي يمر به في لحظة سكر، أما الفتاة فهي ليست الا صورة غلى علبة المشروب الذي يتعاطاه، والدفعات الضعيفة من أرجلها هي حركة السائل داخل العلبة الناتج عن حركة يده الهستيرية، وأرجلها خشنة لأنها قرب حافة العلبة من أسفل، وهكذا تكون أحشاؤها سائلة تفيض في كفه الذي استطاع أن يحملها ويحتويها ويضغطها بقوة.
إنها نهاية تحويلية، تؤدي إلى بناء فهم جديد للنص، غير الفهم الذي تبنيه عملية القراءة تدريجيا، وهذا الأسلوب الذي يستدرج القارئ إلى فخ نهاية غير متوقعة يمكن أن يكون عنصرا جماليا صادما يولد أكبر قدر ممكن من الدهشة اللازمة لنهاية قصة قصيرة.


 
 
 

 

الأربعاء، 19 أغسطس 2015

عندما يكون بطل القصة القصيرة طفلا - فرج ياسين نموذجا

يمكن أن يلحظ قارئ فرج ياسين بسهولة ظاهرة ما فتئت تغلب على أدبه, التركيز على ثيم الطفولة عبر أبعاد متنوعة وتقنيات متعددة، غير أن الشخصية الرئيسة في القصة القصيرة عندما تكون طفلا فإنها تطرح إشكالات فنية يمكن أن تكون واحدا من مصادر المتعة الجمالية في هذا الفن الذي يتسع لمديات غير محدودة من الإبداع.
فمما لا شك فيه أن القصة تهدف بالمرتبة الأولى إلى أن ترينا العالم كما يراه راويها الذي قد يكون البطل أو غيره، عبر ما يعرف بزاوية النظر أو وجهة النظر (Point of view). غير أن تصوير العالم بمفاهيم طفل قد  لا يكون بالأمر اليسير. وفي قصص فرج ياسين تنويعات كثيرة اشتغل عليها في مجال زاوية النظر لبطل القصة الطفل.
ولعل أبرز تلك التنويعات أن يكون الراوي هو البطل (الطفل) نفسه، كما في قصة (حافات السنين المدببة) في مجموعته الأخيرة (رماد الأقاويل)، فالشخصية الرئيسة (علي) الصبي الذي يحب التهرب من المدرسة يعرض عالمه على القارئ برؤية الطفولة التي يمتزج فيها المتخيل بالواقعي والصادق بالمختلق، ولذلك يرى القارئ عالمه غرائبيا وربما سحريا. وفي الجزء الأخير من القصة يمكننا أن نلاحظ كيف فسر شعوره بأول تجربة شبقية يمر بها:
((كان ثمة لفحة من هواء مداث بصدأ الظهيرة ، انسلت من مساحة الفراغ التي خلفها الباب الموارب ، مع بقعة من نور الشمس ، حطت في وسط اللوح ، مثل كف منزوعة الأصابع مكبرة عشرين مرة ، جعلت ترتفع وئيداً حتى غشي اثنان من أصابعها عيني وأطفأهما . لكنني سمعت لهاث العجوز ، ورفعني عطرها إلى أزقة الروح ، مستتيماً إلى وخزات أعضائها في أماكن مختلفة من جسدي ذّرت في القلب حرقة غامضة كالحلم ، بعدها أخذ جسدها يتقبض في مثل زفرات طفل مقرور ، صرخت لا، لا. ثم فاح لعاب دبق وملأ بأبخرته فضاء المكان)).
ولأن القصة تروى هنا من زاوية نظر الطفل يمكننا ملاحظة البراءة والسذاجة في تفسير الظواهر.
غير أن واحدة من مشكلات البطل الطفل تحدث حين يكون الراوي أحد البالغين كالأم أو الأب، ويبدو من الصعب عليه فهم رؤية ذلك البطل، كما في قصة (ثوب بنفسجي قصير الأكمام)، وهي واحدة من روائع قصص الحرب، إذ تصور مأساة إنسانية مؤثرة، أم في ريعان الشباب قتل زوجها في الحرب التي حين وضعت أوزارها كان ابنها الوحيد قد بلغ الثامنة من العمر، وبينما كان الناس يحتفلون بوقف الحرب شعرت هي بمرارة الفقد وحرجها أمام ابنها الذي كانت تعده بعودة أبيه محملا بالهدايا. تظهر الأم وهي تصلح ثوبا بنفسجيا زاهيا لتوهم الصبي أنها تستعد لاستقبال والده، غير أن ما يغيب عنها قوة الحدس الذي يتمتع به الأطفال إن من الصعب أن لا يشعر طفل في الثامنة بوفاة والده، لكنه مع ذلك يقنع نفسه بوعد أمه، وهكذا نرى صورة الطفل من زاوية نظر أمه وهو يقوم بحركات غير مفهومة، إذ لا يبدو سعيدا بذلك الثوب الزاهي ولا بالوعد المغري خاصة حين تصيب إبرة الخياطة سهوا أحد أصابعها:
((.......ثم كشف عن وجهه، ورأت الى عينيه وهما تعلقان في الفراغ مطوفتين حول صورة أبيه المعلقة على الجدار المقابل.))
لم تكن نظرته تشي بسعادة المنتظر عودة أبيه الوشيكة. بل كانت نظرة غير مفهومة (في الفراغ)، وكان رد فعله على وخزة الإبرة لافتا هو الآخر:
((رفس الغطاء ثم استوى قاعدا في الفراش، واقترب حتى أصبح الإصبع الدامي بين عينيه، فاتسعت حدقتاه ورتق الذعر صفحة وجهه المدور العميق السمرة، كانت قد أمسكت بإصبعها المصاب واعتصرته، فنفرت قطرة واحدة من الدم، وتكورت مترقرقة تحت ضوء المصباح.))
لم يكن جرحا بل محض وخزة ابرة بسيطة، ومع ذلك هزت كيان الطفل وملأته ذعرا، وهذا السلوك كشف معرفته بمقتل أبيه التي يريد عدم تصديقها بالانصات مرارا الى وعد أمه. والمهم في مثل هذا النوع من القصص ملاحظة عدم قدرة الراوي البالغ على تفسير سلوك البطل الطفل وفهم حقيقته.
وثمة حالة أخرى يفيد منها فرج ياسين في تكوين مبنى جمالي مستمد من شخصية البطل الطفل، حين يسترجع الراوي البالغ أحداث حكاية حدثت له في طفولته، وربما كانت قصة (رماد الأقاويل) أفضل نموذج لهذه الحالة حيث يحاول الراوي العجوز تفسير واحدة من حكايات الطفولة:
((    قبل أن يظهر لنا هذه المرة ، في الحوار ، كنا قد استدعيناه من حرائق طفولتنا ، لكن السنين العجفاء جعلتنا نغص بهباء الاكتشاف . نعم ، كان رجلاً! وفي محاولة أخرى لطواف الفكرة حول نفسها ، وكان يظهر عارياً على شاطئ حصوي تحف به أجمات الغرب الصغيرة . وفي محاولة أخرى حصلت في المستقبل الذي انقضى منذ زمن طويل: وكان ذلك في الصباح يطل من شاهق على أحلامنا الناعمة . أكان ذلك في كل صباح ؟.))
هنا يلعب القاص لعبة  التعارض بين مفاهيم الطفل ومفاهيم البالغ، فالرجل العجوز يتحدث عن شخصية شعبية كان ينظر اليها على أنها شخصية أسطورية  أو فنطازية سحرية عندما كان طفلا، غير أنه لا يستطيع تفسير ذلك الفهم الآن وهو في عمر الشيخوخة، في الوقت نفسه الذي يصعب عليه فيه نبذ تلك التفسيرات الطفولية والتخلي عنها، وبعد سرد مفصل لتلك المفاهيم والتفسيرات البريئة يقرر في النهاية الاستسلام لها:
((    لشد ما تراءت صورته في ذاكرتي ، مرة يسوح في الأقاويل ، ومرات كثيرة ينتصب فرداً أمام عيني غلام مرنقتين بضباب غبش شتائي ، يخرج عارياً من خلف خرائب القلعة ، فوق عش اللقلق ، يحمل صحيفة مملوءة ماء ويولي وجهه شطر أفق يقف على رؤوس أصابعه ، منتظراً خيوط الشروق الأولى ، بيد أنني انتظرت أعواماً أخرى ريثما تهدا الضجة ويكتمل نصاب الأقران . لكن الجلسة التي ظلت قائمة منذ ثلاثين عاماً لم تتسع الآن ألا  لعكازاتنا المتصالبة تحت الأرائك النخرة .))
فرؤية البطل الطفل عصية على الفهم من قبل البالغين، حتى لو كان ذلك البالغ هو الطفل نفسه بعد بلوغه مبلغ الكبار.
وفي قصة لافتة أخرى يقدم فرج ياسين طفلا غريبا. طفل في الخمسين من العمر، في قصة (الصرة)  المنشورة في مجموعته (حوار آخر). فبطلها (عباس) وحيد أمه، أوقف نفسه لخدمة تلك الأم استجابة لتعلقها به، ومرت أعوامه الخمسون من غير أن يكتسب أية تجربة معرفية اجتماعية إذ لم يختلط بأحد من الناس وبقي متمسكا بالتفسيرات الطفولية للحياة. ويبدو أن الأم كانت هي الأخرى راغبة في ذلك:
((- حسنا لقد كانت له أم وكانت تحتفظ به بشدة، لقد كانت تسميه (الطفل)، وهو في الخمسين. إنها تجلس بعد مغيب الشمس من كل يوم عند عتبة البيت، فيداعبها الكبار والصغار قائلين: ما الذي تنتظرين يا أم عباس فتقول: إنني أنتظر الطفل .......))
واللافت في القصة أن القاص يصور سلوك بطلها كأنه لا يملك وسيلة للاتصال بالعالم سوى السمع فهو لا يستفيد أبدا من عينيه، وهذه إشارة واضحة الى أنه كما لو كان ما يزال في الطور الجنيني من حياته، وحين تموت أمه يغرق في متاهة الحياة التي لم يتعلم كيف يسلك طرقها:
((... وهو الآن لا يناقش ما يستمع إليه،إنه يتلقاه فقط. وقد تخجله حرية الآخرين، ليس لأنها تخرج عن الحدود أحيانا فهو يعرف أن لا حدود بل لأنه لا يستطيع أن يتصور الحرية بدون أم.))
إنه (طفل) يتلقى العالم بانطباعات فورية ومن غير محاولة للتفسير، ولا حدود عنده لأي شيء، والحرية عنده هي الحياة في كنف أم راعية يتصرف أمامها كيف شاء من غير خوف ولا وجل لأنها هي من يوفر له الحماية.
وبعد مراجعات مع النفس يقرر عباس تلك الليلة أن لا يبيت في بيته الذي خلا من أمه ويعود إلى محلج القطن الذي يعمل فيه ليجده مقفلا، حين ذاك:
((.... قرفص الى جانب الباب وشبك يديه فوق ركبتيهثم أغمض جفنه الخدر.... لكنه ظل متزملا بمعطفه الأخضر الثقيل وبالكوفية راح الآن ينشرها ويلفها حول رأسه ووجهه، وبعد قليل أسند كتفيه الى الحائط، وجعل ظهره متجها للريح....))
من الواضح أن (عباسا) يتخذ هيأة الجنين ويصنع من ملابسه ما يشبه رحما يعزله عن العالم فهو يرفض أن يولد. أما (الصرة) فهي اللغز الذي حيره فقد ورثها فيما ورث من أغراض في صندوق أمه صرة صغيرة من القماش الأسود لم يجرؤ على حل عقدتها واكتشاف ما بها واكتفى بمحاولة الحدس. لكنه في آخر أسطر القصة بعد أن اتخذ تلك الجلسة:
((.... لكن أصابعه لامست الصرة في جيبه فاستوى جالسا وأخرج الخرقة السوداء، وبخفة متناهية أعمل أصابعه في حل عقدتها، لكن الذي هاله أنه لم يجد شيئا في داخلها. لقد كانت قطعة القماش الخشنة تلتف على نفسها عدة مرات ليس إلا.))
يبني القاص هنا مفارقة لغوية فالصرة في اللهجة العراقية تشير أيضا الى (السرة) مكان ارتباط الحبل السري الذي يغذي الجنين. وهكذا كان انحلال عقدة تلك الصرة الولادة الإجبارية للبطل بعد موت أمه رغما عنه وعلى الرغم من رفضه تلك الولادة.
وهكذا يمكننا ملاحظة كم من الجمال الفني يمكن أن تتضمن قصة قصيرة تتخذ طفلا شخصية رئيسة فيها. خاصة عندما يأخذ القاص وجهة نظر ذلك الطفل بنظر الاعتبار.





الجمعة، 14 أغسطس 2015

شعرية القصة القصيرة جدا

 
تتخذ اللغة في القصة القصيرة جدا شكلا ليس كشكلها المعتاد في الأدب القصصي، ففي القصة القصيرة والراوية يسعى الكاتب إلى إدهاش القارئ بتميز سرده أو تماسك حبكته، أما هذا النوع من الأدب القصصي فهو مختلف في كل شيء، حتى في غايته، فالقصة القصيرة جدا لا ترمي إلى عرض مقطع عرضي في لحظة من الزمن ووضعه تحت مجهر السرد كما هو الحال في القصة القصيرة، بل تسعى إلى توليد الدهشة في ذهن القارئ بأسرع ما يمكن اعتمادا على تكنيكات لغوية خاصة.
تفرض المساحة الصغيرة المتاحة للقاص لغة خاصة تمتاز بالكثافة العالية، فضلا عن تسارعها المحموم باتجاه النهاية، فيبدو القاص كطير محبوس في قفص، لا يلبث أن يجد منفذا حتى ينطلق منه بسرعة السهم.
وتعني الكثافة قي لغة القصة القصيرة جدا شحن الكلمات بأكثر ما يمكن من المعاني، والتعبير عن أكثر ما يمكن من (الأفعال) بأقل ما يمكن من المفردات. وهذا لا يتأتى إلا بلغة الشعر التي اكتسبت مع توالي الخبرة الإنسانية عليها القدرة على التكثيف الهائل للمعاني.
ولننظر مليا في بعض من النماذج لنحدد سمات تلك اللغة وتأشير ملامح شعريتها.
إن أهم أركان السرد أن يعمد القاص إلى رسم صور شخصياته وهي (تفعل)، لا أن يخبرنا هو عن (أفعالها)، ومن هنا تكون الأفعال عنصرا غاية في الأهمية في لغة القصة القصيرة جدا، فكثير من الأفعال يعني كثيرا من المعاني وكثيرا من الأحداث. هذه قصة (غصة) لـ (السعدية باحدة):
مر من أمامها ،نظر في عينيها...
فنظرت في عينيه
مرت من أمامه،ابتسمت له ...
فابتسم لها
لم يعد يمر من أمامها..
تحسست بطنها بيدها....
فأيقنت أنه...
وقع امتداده....
ورحل
يمكن أن نرصد غلبة الأفعال على الأسماء في هذا النص، ففي الوقت الذي لا يحتوي على أكثر من ثمانية أسماء – مع استبعاد الضمائر المتصلة من العدد لأنها لا تشكل قيمة حقيقية في الطول- يحوي النص اثنا عشر فعلا.
هذه صفة عامة في القصة القصيرة جدا، حشد الأفعال وتزاحمها، بل سيادة الجمل الفعلية الضاجّة بالحركة.
ولغة (الإشارة) تكنيك آخر من تكنيكات القصة القصيرة جدا يقرب لغتها من لغة الشعر، ففي النص السابق ذاته نلاحظ الكثافة المعنوية الهائلة التي حملتها العبارة (تحسست بطنها بيدها)، فهذه الحركة اختزلت الكثير من الكلام والكثير من الأفعال، وأغنت الكاتب عن العودة إلى أحداث ماضية، عندما أوحت هذه العبارة بها إلى القارئ،وفي هذه القصة لـ(هدى فائق) نجد ذات التكنيك:


تقلب صفحات الاجندة ..تبحث عنه ..يقع بصرها على التاريخ ..تهم كتابة تعليق احتفالا بالذكرى الثانية ..تمنعها دمعة غافلتها وسقطت ..لتمحو شيئا ظل عالقا بالذاكرة .
صورة الدمعة الساقطة هنا هي كل القصة فهي تحكي قصة حب عجز عن الاستمرار ولم يعد سوى ألم يعلق بالذاكرة.
ضرورة التكثيف في لغة القصة القصيرة جدا كثيرا ما تغري كتابها باختيار موضوع شعري لقصصهم، هذه مثلا قصة (موجة) للقاص محمود أبو أسعد:


تساقط الظلام وانساب كظل امرأة، عندما أرخت وشاح الريح فوق شعرها ، تسابق ظلالها قوافل الأشرعة ، انحسرت ما بين خصر وثنايا موجة مغرورة ، لتكتب في الشاطيء قصائد وأشعار غزل.


نحن هنا أمام لغة شعرية بالكامل بما تحوي من انزياحات وتشبيهات، فضلا عن الموضوع الشعري ذاته المتمثل في تشخيص موجة، ومثل هذا النوع من القصص تأخذ فيه الانزياحات الأهمية الأولى قبل الأفعال، فهذه القصة – مثلا- قائمة على اسناد الفعل إلى موجة وسط البحر(بمعنى انزياحي)، وهناك (وشاح الريح) و(شعر الموجة) و(قوافل لأشرعة) و(موجة مغرورة)......
يرى بعض الدارسين أن ((معظم الفاشلين في ميداني القصة والشعر قد وجدوا في الـ (ق. ق. جداً) ملاذاً آمناً لأن هناك كتاباً يمارسونها هرباً من كتابة القصة العادية متوهمين فيها السهولة ما أدى إلى طوفان من القصص القصيرة جداً-انظر الرابط هنا))، وفي هذا الرأي وهم كبير، فهو يشبه الرأي القائل أن قصيدة النثر أدت إلى تسهيل ركوب مركب الشعر مما جعل عدد من يدعون أنهم شعراء لا يعد ولا يحصى، فمثل هذه الآراء تغفل العامل الجمالي الذي يستشعره من يتلقون النص الأدبي وتكون لهم الكلمة الفصل في الجودة والرداءة.
إننا نرى – بالضد مما تقدم- أن كاتب القصة القصيرة جدا شاعر بالضرورة لأن اللغة الشعرية واحدة من أهم مستلزمات هذا الفن

زاوية النظر والبداية في القصة القصيرة

زاوية النظر واحدة من القضايا المعقدة في القصة القصيرة ، لكنها أيضا من أهم التكنيكات التي تعطي القصة سحرها وجمالها.
نقصد بزاوية النظر موقع الراوي (السارد) الذي يقص القصة ، الذي قد يكون الشخصية الرئيسة أو شاهد على الحدث، وقد يقص القصة بضمير المتكلم أو الغائب أو- وهذا نادر – بضمير المخاطب ، والمعلومات التي سيقدمها الراوي في القصة يجب أن تكون متوافقة مع موقعه من الحدث.
في القصص القديمة كان الكتاب يلجؤون إلى ما نعرفه اليوم بالراوي العليم، الراوي الذي يستطيع أن يعرف دواخل كل شخصيات  القصة ، لكن هذا أسلوب بدائي يجعل القصة قريبة من الحكاية الشعبية ويضعف قيمتها الفنية كثيرا ، اذ يكفي أن نسأل عن مكان وجود هذا الراوي وكيف استطاع قراءة أفكار أكثر من شخصية واحدة لتتهافت القصة. ولا ننكر ان بعض الكتاب مازال يستخدم هذا الأسلوب بين الحين والآخر ربما لمبررات فنية يرمي اليها القاص، هذه مثلا بداية قصة (الشكوى ممنوعة) للقاص حسب الله يحيى:


((وقفت أمامه حائرة، لم تكن تريد أن تبوح له بحقيقة ما حدث.. خشية أن تقود نفسها إلى النار، وتلحقه بها.‏
أجابت.. أنها بخير، وأن المكان الذي نقلت إليه جيد ونافع لها.. غير أنه لاحظها وهي تخشى نظراته، تهرب منها.. كأنما كانت تخشى أن يكتشف كذبها عليه...‏))


حين نقرأ السطر الأول نظن أن القصة مكتوبة من زاوية نظر البطلة ، من خلال العبارة (لم تكن تريد أن تبوح له .....) لأن هذا حديث عن تفكير داخلي في عقل الشخصية ونفترض أن كل ما سيأتي يمثل زاوية نظرها ، غير أننا نفاجأ في الفقرة التالية بالعبارة (غير أنه لاحظها وهي تخشى نظراته، تهرب منها.. كأنما كانت تخشى أن يكتشف كذبها عليه) ففيها وصف للطريقة التي كان يفكر بها الشخص الثاني في داخله ونظرته الى البطلة، طبعا لا يمكن أن يكون هناك راوٍ يستطيع قراءة أفكار الناس جميعا.
فبداية هذه القصة أخفقت في إدخال القارئ عالمها من زاوية نظر محددة، ولذلك سيكون دوره متلقيا سلبيا لأن الراوي سيتكفل بشرح كل أفكار الشخصيات ولن يكون للقارئ دور في الحكم أو التدخل.
عندما يكون السرد باستخدام ضمير المتكلم أو المخاطب تكون الأمور أسهل لأن الضمير سيحكم معارف الراوي ، ومثالي هنا بداية قصة (الهولندي الطائر) للقاص العراقي علي عبد الأمير صالح:
((أنا رجل عاطفي، أهوى ثلاثاً: الموسيقى، الآيس كريم، والنساء..‏
ولأنني أعشق الموسيقى فأنا أُسمع مرضاي ألحاناً عذبةً، بينما هم ينتظرون دورهم في الصالة الواسعة.‏
الواقع، أن أغلب مرضاي من الجنس الناعم؛ فتيات بين السادسة عشرة والخامسة والعشرين، وسيدات في سني زواجهن الأولى..‏))


الراوي هنا هو نفسه الشخصية الرئيسة في القصة ، طبيب أسنان مصاب بالفتيشية ، وهي عقدة نفسية تجعل المصاب بها يتعلق بأشياء الحبيب كالملابس والأحذية أكثر من الحبيب نفسه. في القصة يرد حديث عن أكثر من شخصية نسائية لكننا نراهن جميعا كما يراهن الراوي بطل القصة ، مما يمكننا من الحكم عليه وعلى سلوكه المنحرف وهنا تكمن متعة القصة التي يلتزم فيها القاص بفكرة زاوية النظر.
وبالطبع يمكن أن تكتب القصة من زاوية نظر الشخصية الرئيسة ولكن باستخدام ضمير الغائب ، كما في (كاردينيا) للقاصة العراقية إيناس البدران:


((هكذا وجدت نفسها موزعة بين هنا وهناك ، دون ان يكون لمشاعرها دور يذكر ، تتابع الوجوه النحيلة ذات السواعد المعروقة وهي تمارس طقسها الأزلي المقدس في وصل شرايين الحياة ومد جسورها كجنود مجهولة بأنفاس مقطوعة وصبر))


هذه البداية (وجدت نفسها موزعة ......) حكمت الراوي بأن لا ينظر الى الحدث الا من زاوية نظر البطلة ، وهي لا تختلف شيئا عن الصيغة (هكذا وجدت نفسي موزعة بين هنا وهناك.....). والشخصيات التي تظهر في القصة فيما بعد انما هي موجودة في عقل شخصية البطلة:


((وتذكرت ما أخبرها به والدها يومها من أن هذه النبتة دائمة الخضرة تدخر ازهارها اللؤلؤية لتظهرها مرة واحدة في العام .))


قد لا يكون أبوها مرهفا الى هذا الحد ، وقد لا تكون هذه مقولة مهمة بالنسبة اليه ، لكنها طالعتنا من زاوية نظر هذه المرأة التي هي شخصية القصة الرئيسة.


بعض كتاب القصة يبدعون بدايات معقدة لتحديد زاوية النظر تضفي على القصة جمالا وآفاقا واسعة للتأويل ، خذ مثلا قصة (اليهودي) للقاص الروسي (ايفان تورجينيف):


((احك لنا شيئا يا سيادة العقيد . قلنا فى النهاية لنيكولاى إليتش .
ابتسم العقيد وأطلق دفقة دخان من بين شواربه ، ومر بيده على شعره الأشيب ثم سرح ببصره نحونا .
كنا نحب نيكولاى إليتش ، ونحترمه كثيرا لطيبته وحكمته ، ورفقه بإخواننا الشباب . كان طويل القامة ، عريض الكتفين ممتلئ ، ووجهه الأسمر " واحد من أجمل الوجوه الروسية "** ، وصراحته ونظرته الذكية وابتسامته الخاطفة وصوته الجهورى المفعم بالرجولة ـ كل شئ فيه كان يجذبنا ويثير إعجابنا .))

أحداث القصة هنا تروى بروايتين متداخلتين، فالراوي يصف لنا راويا آخر ويحاول حملنا على تصديقه من خلال الصفات التي يسندها اليه ، غير أن القارئ يجب أن يشعر ان أحداث القصة جاءت بعد أن أجرى الراوي من زاوية نظره تعديلات معينة على زاوية نظر الراوي الأول (نيكولاي).

جسد الحكاية وجسد النص - مقاربة في المصطلحات


لا تكاد تخلو دراسة في القصة القصيرة من الإشارة الى أن القصة أكثر الفنون حساسية للنهاية، وربما يصل البعض الى القول أنها نص مكتوب من أجل النهاية، وكل كلمة فيه تشير اليها كما ذهبت الى ذلك (سوزان لوهافر) في كتابها (الاعتراف بالقصة القصيرة). لكن عن أية نهاية نتحدث؟ هل هي نهاية الحكاية (متوالية الأحداث) التي بنيت عليها القصة (النص)؟ أم هي نهاية النص القصصي (آخر جملة فيه)؟ مثل هذا السؤال يثير مشكلات اصطلاحية ملتبسة وملبسة، تأتي من عدم الاتفاق على ماهية النهاية، وتتعدى ذلك الى مفهوم البداية أيضا.

لنفرض أننا نقرأ قصة مبنية على متوالية من خمسة أحداث هي (أ،ب،ج،د،ه)، فمثل هذه القصة يمكن أن تصاغ بالترتيب المنطقي للمتوالية (الحبكة التقليدية) بحيث تتوالى الأحداث كما يفترض أنها وقعت في الواقع، لكن ثمة احتمالات أخرى للترتيب تتحكم فيها التكنيكات التي سماها (جيرار جينيت) الاستباق والاسترجاع، فيمكن مثلا أن تأتي القصة هكذا:

 

ب – د – أ – ج – ه

 

أو

 

ب – ه – د – أ – ج

 

وتحدث في مثل هذين الاحتمالين المفارقة الزمنية بين البداية والنهاية في الحكاية وما يقابلهما في المتوالية كما وردت في النص القصصي، فهل سننظر الى الحدث الأول في النص على أنه البداية والأخير على أنه النهاية؟

ويكون الالتباس أكبر عندما نواجه قصصا من ذوات النهاية المفتوحة وترد متوالية الأحداث هكذا مثلا:

 

أ – ج – ب – د

 

حيث تم حذف الحدث (ه) الذي يفترض أنه نهاية الحكاية وترك القارئ يجتهد لبناء النهاية حسب فهمه. وسننشغل هنا بدراسة احتمالات النهاية المفتوحة بينما نهمل النهاية الفيزياوية للنص المتمثلة بالجملة الأخيرة وأوقفت تدفق النص عند الكلمة الأخيرة.

نتحدث عن البداية غالبا على أنها النقطة الزمنية التي اختارت القصة أن تبدأ منها، ونتحدث عن النهاية على أنها الحدث الختامي الذي يحل نسق متوالية الحكاية ويوقف امكانية تدفقها. لكننا بهذا نرتكب خطأ كبيرا إذ نغفل عن البناء اللغوي للنص- الجملة الأولى والجملة الأخيرة.

لا أتحدث هنا عن التمييز التقليدي المفيد في كثير من الأحيان بين (المتن الحكائي) و(المبنى الحكائي)، فحتى في هذين المفهومين لا نهتم بالصياغة اللغوية، لأن (المتن الحكائي) هو موالية الأحداث كما يفترض أنها وقعت في الواقع، و(المبنى الحكائي) هو متوالية الأحداث كما تم ترتيبها في النص القصصي، وفي كلتا الحالتين نحن نتحدث عن القصة بوصفها متوالية زمنية للأحداث ولا نعنى بالنص بوصفه منجزا إبداعيا مادته اللغة. فهناك بداية ونهاية أخرى في النص القصصي لا علاقة لها بالحكاية، إنها بداية جسد النص ونهايته أو الجملتان الأولى والأخيرة.

الجملة الأولى هي الفخ الذي سيستدرج القارئ ويأسره، فلا يستطيع الخروج منه إلا عند جملة النهاية، فهي جملة إغرائية تقدم للقارئ معلومات كثيرة بكلمات قليلة، لكنها معلومات ناقصة تثير فضوله وتدفعه الى الأمام في القراءة سعيا لإتمام النقص.

أما الجملة الأخيرة فهي جملة إشباع، تعيد القارئ الى واقعه ليمارس إعادة بناء ما قرأ لتكوين رؤيته الشخصية.

عند هذه النقطة يبدو أننا بحاجة الى تأصيل مصطلحين يقابلان بداية الحكاية ونهايتها، يشيران الى بداية النص ونهايته ولا يختلطان بالمصطلحين السابقين.

أما جملة البداية فيمكننا استخدام المصطلح التراثي الذي اشتغل عليه الأستاذ ياسين النصير، وهو (الاستهلال)، لأنه يدل بدقة على الجملة الأولى ولا يمكن أن ينصرف الذهن عند سماعه الى (بداية الحكاية) أو الحدث الأول في متواليتها وهو المقابل للمصطلح الانكليزي Initialization.

وأما الجملة الأخيرة التي تمثل نهاية النص القصصي، فهي الجملة التي تقفل النص وتحل نسقه اللغوي وتعطل إمكانية تدفقه. إنها تشبه ضربة الفرشاة الأخيرة في الرسم التي يعرف الرسامون حساسيتها.

ثمة مصطلح سبق أن استخدمته في دراستي الأكاديمية أوائل التسعينيات واستخدمه غيري أيضا في البلاد العربية هو (الإقفال)، الذي يمكن أن يدل على انتهاء النص وتوقف امكانية تدفقه من غير أن يلتبس بنهاية الحكاية، وهو المقابل للمصطلح الانكليزي Closure وإذا عدنا الآن الى أمثلتنا الأولى، ففي كل الاحتمالات الآتية:

 

(س) ب – ج – د – أ – ه (ق)

(س) أ – د – ج  ب (ق)

(س) ج – ب  ه – أ – د (ق)

 

تمثل (أ) البداية و (ه)  النهاية بدلالتهما الزمنية على أول وآخر حدث في متوالية الحكاية، بينما تمثل (س) الاستهلال الذي هو دائما الجملة الأولى في النص القصصي، وتمثل (ق) الإقفال الذي يشير دائما الى الجملة الأخيرة الختامية.

سلوك اللغة في القصة القصيرة جدا


يؤدي الحيز المتاح للقاص في القصة القصيرة جدا الى أن تتخذ اللغة أشكالا جديدة وغير معتادة، ففي ق.ق.ج تكون اللغة كالأوكسجين المضغوط في القناني الفولاذية، حيث يتغير سلوكه وشكله.

نحاول هنا أن نتخذ من (الموجة) نموذجا تطبيقيا لرصد سلوك اللغة في ق.ق.ج، و(الموجة) قصة قصيرة للقاص العراقي (فرج ياسين) في مجموعته (رماد الأقاويل) المنشورة عام 2007، فقد اعتاد القاص أن يختم كل مجموعة قصصية له بقصة قصيرة جدا، وهذا نص الموجة:

((   بنى الصبي قصره على الشاطئ ، جمع العيدان والقش من خريط الأغصان المتناثرة تحت شجيرات الطرفاء ، واحضر الغضار الصلب الدبق من فوهات جحور اليرابيع ، حيث كانت قد قذفته بأرجلها الدقيقة ، ثم أتى بالأعمدة والجسور التي نصبها تحت سقوف الحجرات والمجازات والأبهاء ، من صراة الخليج الراكدة . لقد استل القصب من بين أقدام الضفادع العائمة في الماء ، وقام بتهشيمها ألواحاً ، وانفه يقطر عرقاً .

    أفلح الصبي في بناء قصره ذاك ، بعد أن سلخ في بنائه ساعات طويلة ، أي فرح كان سيغمر قلبه لو لم تأت تلك الموجة وتمحوه ؟))

تقوم الفلسفة التقنية لدينامية ق.ق.ج ، حسب ما نرى، على إحداث تراكم ملحوظ لحركة لغوية تؤدي منطقيا الى نتيجة متوقعة، لكن  هذا التوقع يصطدم بجملة النهاية التي تغير اتجاه المركم، ليشير إلى نتيجة بعيدة تماما عن التوقع الأول. وفي هذه القصة يتمثل المركم في جمل بناء البيت:

بنى الصبي قصره على الشاطئ

جمع العيدان والقش

احضر الغضار الصلب الدبق

أتى بالأعمدة والجسور

.................

أفلح الصبي في بناء قصره ذاك

ونظن أن الجملة الأولى في المركم زائدة، ولو لم تكن موجودة لكانت القصة أجمل، فقد أظهر فيها القاص القصر قبل أن يتم بناءه.

ويمكن أن نلاحظ هنا أن جميع جمل بناء القصر جمل فعلية متوازية في التركيب النحوي:

فعل ماض+فاعل+مفعول به

والحقيقة أن تراكم الأفعال سمة مميزة للغة ق.ق.ج، فقصة (الموجة) تتكون من 97 كلمة فيها 16 فعلا، أي بنسبة 17% وهذه نسبة كبيرة مقارنة باللغة الطبيعية.

وكل هذه الأفعال المتراكمة تؤدي الى توقع نتيجة واحدة، اكتمال بناء قصر عجيب، قد يحدث داخله حدث ما، فكل جملة فعلية تضيف قطعة أخرى من قطع بناء القصر، ومن المهم أن نلاحظ إصرار القاص على ذكر مصدر المادة (خريط الأشجار، فوهات جحور اليرابيع، أقدام الضفادع....)، لكن هذه الوظيفة تتغير عند جملة النهاية لتكتسب دلالة جديدة لم يكن من الممكن الإحساس بها قبل إنهاء القراءة، كما سنرى.

أفعال البناء التي استخدمها القاص هي (بنى، جمع، أحضر، أتى بـ ، نصبها، استل، قام، أفلح، سلخ) وكلها أفعال تدلّ على ضم الأشياء إلى بعضها، حتى نصل إلى الفعل قبل الأخير (أفلح) الذي يدل على تمام التراكم، وهنا يأتي الفعل الأخير من أفعال جمل البناء ليكسر النسق، فالفعل (سلخ)، على الضد من كل الأفعال السابقة يدل على تفريق الأشياء لا ضمها. وهو يهذا يمهد للتغير الجذري الذي ستحدثه جملة النهاية.

يعتمد فرج ياسين على البناء الصوتي، بوصفه تقنية من تقنيات بناء المستوى الشعوري، ويمكن أن نلاحظ هنا الالحاح في تكرار صوتين، هما الصوتان الأولان من الكلمتين (بنى قصره) الواردتين في الجملة الأولى. وهما (الباء والقاف)، حيث  يمكن ملاحظة تكرارهما اللافت، فثمة ثمانية عشر باء، وستة عشر قافا، جاءت بتشكيلة إيقاعية واضحة، حيث وردت بهذا التناوب:

ب ب ق ق ب ب ق ب ق ق ب ق ق ب ب ق ب ق ق ب ب ق ق ب ق ق ب ب ق ب ب ق ب

ومن الواضح أن هذه المتتالية تظهر الحرص على تناوب أزواج من كل من الصوتين ما أمكن ذلك، لتكون صورة مكررة لكلمتي الجملة الأولى (بنى قصره).

هذا يعني أن المركم الذي أشرنا اليه، لا يراكم الأفعال حسب، بل ثمة تراكم صوتي أيضا يساند السلسلة الفعلية المتراكمة ويؤازرها في بناء التوقع.

ويمكن أن نلاحظ كيف اكتسبت البيئة دورا فاعلا، فالمحيط الذي وصفته جمل بناء القصر، لم يوصف لمحض رسم المشهد القصصي، بل إن البيئة ذاتها كانت موجودة لتكون عنصرا مهما في عملية البناء، فالأحجار والطين والضفادع واليرابيع وغيرها كلها كانت موجودة ليكون لها وظيفة محددة بدقة في عملية البناء، إذ تحولت الى أعمدة وجسور ومجازات وأبهاء.

ثمة سمات عديدة تغيرت في سلوك اللغة في جملة النهاية، وهي السمات التي أعطتها القدرة على إجراء عملية تحويل دلالي على كل الجمل السابقة، يمكن إجمالها بالآتي:

1-  كل الجمل فعلية الا جملة النهاية فهي إسمية.

2-  كل الجمل خبرية إلا جملة النهاية فهي جملة طلبية (استفهام).

3-  كل الجمل بنيت على فعل ماض الا جملة النهاية التي بنيت على فعل مستقبل غير متحقق (سيغمر).

 

وتكتسب الجملة الشرطية في النهاية أهمية كبيرة تتضح لو أعدنا كتابة جملة النهاية بالصيغة القياسية لجملة الشرط:

لو لم تأت تلك الموجة وتمحوه، أي فرح كان سيغمر قلبه؟

فالفعل (سيغمر) لم يتحقق ليس لأنه بصيغة المستقبل فحسب، بل لقد أمعن القاص في إبعاد إمكانية تحققه بوضعه في جواب شرط (لم) التي يمتنع تحقق جوابها لامتناع تحقق شرطها.

ويمكن أن نلاحظ أيضا أن الجملة المنفية الوحيدة في القصة هي (لم تأت تلك الموجة وتمحوه) فهذا حدث لم يكن مرغوبا فيه، غير أن نفيه ملغى بـ(لو) إذ وقعت الجملة في شرطها لينقلب النفي إثباتا (مجزوما) بصحته.

جمل البناء عند القراءة الأولى توحي بنشاط الصبي وحركته وسعادته بالعمل على تشييد هذا القصر، ويبدو أن هذه هي وظيفتها الدلالية، غير أن جملة النهاية تقلب الموازين وتجعل القارئ يغير رأيه وانطباعه، فبدلا من مشاركة الصبي سعادته تتحول دلالة جمل البناء الى تصوير جهد مضنٍ استلزم مدة طويلة من الزمن بطرفة عين.

وقد كان للفعل (سلخ)- بما يعبر عنه من دلالة الفصل بين الأشياء وتفريقها وارتباطه في الوعي العربي بسلخ الذبيحة، بما في ذلك من قسوة- دور بارز في تهيئة مجرى الأحداث الى الانقلاب الكلي، وهكذا يمكن أن نتصور أن الفعل (أفلح) يمثل أعلى نقطة في خط متصاعد رسمته أفعال البناء، وأن الفعل (سلخ) يمثل لحظة انحدار رأسي للخط باتجاه القاعدة التي انطلق منها.